(بناء الرجال):ورد في تراث الإمام حسن البنا والعديد من رسائله ما يُؤكد فيه على هذا المعنى، وهو ضرورة بناء الرجال، وحُسن إعدادهم، باعتبارهم سر نهضات الأمم، وعمادها في أوقات تحولها، وهم رأس مالها الزاخر ورصيدها الوافر.
ولعل أكثر المواضع التى ركز فيها الإمام البنا على قضية (إعداد الرجال)، هذا المقال المنشور في جريدة الإخوان المسلمين، والذى يُعد جزء من رسالته القيمة: (هل نحن قوم عمليون؟). وإليكم نص ماكتب فضيلة الإمام – رحمه الله:
«رأيتُ في المقال السابق أن «جماعة الإخوان المسلمين» كانت في طليعة الجمعيات المنتجة من حيث المشروعات العامة والمؤسسات النافعة، من مساجد ومدارس، ولجان خير وبر، ودروس ومحاضرات وخطب وعظات، وأندية يتناوبها القول والفعل.
ولكن الأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير، وتريد أن تبني حياتها المستقبلة على أساسٍ متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة، وتطالب بحق مسلوب وعز مغصوب، في حاجةٍ إلى بناء آخر غير هذه الأبنية.
إنها في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس، وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب.
إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم، أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة، وإني أعتقد – والتاريخ يؤيدني – أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمةً إن صحت رجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء.
وإن الأمم تجتاز أدواراً من الحياة كتلك الأدوار التي يجتازها الأفراد على السواء؛ فقد ينشأ هذا الفرد بين أبوين مترفين آمنين ناعمين، فلا يجد من مشاغل الحياة ما يشغل باله ويؤلم نفسه، ولا يطالب بما يرهقه أو يُضنيه، وقد ينشأ الفرد الآخر في ظروف عصيبة، وبين أبوين فقيرين ضعيفين، فلا يطلع عليه فجر الحياة حتى تتكدس على رأسه المطالب، وتتقاضاه الواجبات من كل جانب، وسبحان من قسَّم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة!
وقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب، وتتنازع البقاء أشد التنازع، وتكون الغلبة دائمًا للقوي السابق. وشاءت لنا الظروف – كذلك – أن نواجه نتائج أغاليط الماضي، ونتجرَّع مرارتها، وأن يكون علينا رأب الصدع وجبر الكسر، وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا، واسترداد عزتنا ومجدنا، وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا. وشاءت لنا الظروف – كذلك – أن نخوض لجة عهد الانتقال الأهوج؛ حيث تلعب العواصف الفكرية، والتيارات النفسية، والأهواء الشخصية بالأفراد وبالأمم وبالحكومات وبالهيئات وبالعالم كله، وحيث يتبلل الفكر، وتضطرب النفس، ويقف الربان في وسط اللجة يتلمس الطريق، ويتحسس السبيل، وقد اشتبهت عليه الأعلام (1)، وانطمست أمامه الصوى (2)، ووقف على رأس كل طريق داع يدعو إليه في ليلٍ دامس معتكر وظلمات بعضها فوق بعض، حتى لا تجد كلمة تعبر بها عن نفسية الأمم في مثل هذا العهد أفضل من (الفوضى).
كذلك شاءت لنا ظروفنا أن نواجه كل ذلك، وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية.
وإن الأمة التي تُحيط بها ظروف كظروفنا، وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات، أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه (3)، وبين المخلصين الغيورين والادعياء المزيفين. وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس مع الجهاد راحه حتى يضع النضال أوزاره، و(عند الصباح يحمد القوم السري) (4).
وليس للأمة عدة في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة، والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء بالتضحيات، والإقدام عند الملمّات، وبغير ذلك تغلب على أمرها، ويكون الفشل حليف أبنائها.
ومع أن ظروفنا هي ما علمت، فإن نفوسنا لا تزال تلك النفوس الرخوة اللينة المترفة الناعمة التي تجرح خديها خطرات النسيم، ويدمي بنانها لمس الحرير.
وفتياتنا وفتياننا وهم عدة المستقبل، ومعقد الأمل لا يزال حظ أحدهم، أو إحداهن مظهرًا فاخرًا، أو أكلة طيبة، أو حلة أنيقة، أو مركبًا فارهًا، أو وظيفة وجيهة، أو لقبًا أجوف، وإن اشترى ذلك بحريته، وإن أنفق عليه من كرامته، وإن أضاع في سبيله حق أمته.
وهل رأيت أولئك الشبان الذين تنطق وجوههم بسمات الفتوة، وتلوح على مُحياهم (5) مخايل النشاط، ويجرى في قسماتهم ماء الشباب المشرق الرقراق، وهم يتذللون على أبواب رؤساء المصالح والدواوين بأيديهم طلبات الوظائف؟
وهل رأيتهم يتوسلون بالصغير والكبير، ويرجون الحقير والأمير، ويوسطون حتى سعاة المكاتب وحجاب الوزارات في قضاء المآرب وقبول الطلبات؟
هل تظن – يا عزيزي القارئ – أن هذا الشباب إذا أسعفه الحظ وتحقق له الأمل، والتحق بوظيفة من هذه الوظائف الرسمية يفكر يومًا من الأيام في تركها، أو التخلي عنها في سبيل عزة، أو كرامة، وإن سيم الخسف وسوء العذاب؟
نفوسنا الحالية في حاجة إلى علاج كبير، وتقويم شامل، وإصلاح يتناول الشعور الخامد والخلق الفاسد والشح المقيم. وإن الآمال الكبيرة التي تطيف برءوس المصلحين من رجالات هذه الأمة، والظروف العصيبة التي نجتازها تطالبنا بإلحاح بتجديد نفوسنا، وبناء أرواحنا بناءً غير هذا الذي أبلته السنون، وأخلقته الحوادث، وذهبت الأيام بما كان فيه من مناعة وقوة، وبغير هذه التقوية الروحية والتجديد النفسي لا يمكن أن نخطو إلى الأمام خطوة.
إذا علمت هذا، وكنت معي أن هذا المقياس أصح، وأدق في نهضات الأمم والشعوب، فاعلم أن الغرض الأول الذي ترمي إليه جمعيات الإخوان المسلمين (التربية الصحيحة)، تربية الأمة على النفس الفاضلة، والخلق النبيل السامي، وإيقاظ ذلك الشعور الحي الذي يسوق الأمم إلى الذود على كرامتها، والجد في استرداد مجدها، وتحمل كل عنت ومشقة في سبيل الوصول إلى الغاية».(*)
———————— (*) المصدر: مقال للإمام حسن البنا، نشر فى جريدة الإخوان المسلمين، العدد 17، الصادر بتاريخ 20 جمادي الأول 1353هـ – الموافق 28 أغسطس 1934م. وهذا المقال يعد جزء من رسالة: (هل نحن قوم عمليون؟). (1) العلم: وهو الجبل، وجمعه: أعلام. (2) الصُوى: الأعلام من الحجارة، ومفردها صُوَّة. والصُوى: ما غلُظ من الأرض ولم يبلغ أن يكون جبلًا. (3) نَكَبَ عن الشىء، أي عَدَلَ عنه وتركه. (4) وهو مثل يُضرب فى الحث على مزاولة الأمر بالصبر وتوطين النفس حتى تحمد عاقبته. (5) المُحيّا: وهو الوجه.