في ظلال رسالة دعوتنا (1) – للإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
مدخل: نشرت مجلة الاخوان المسلمين الأسبوعية هذه الرسالة على هيئة مقالات بلغت سبعة مقالات، ونشرت المقالة الأولى فى العدد (2) والذى صدر فى 20 محرم 1354هـ، الموافق 23 أبريل 1935م، ثم توالى نشر المقالات السبعة حتى العدد (10) من مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، والصادر بتاريخ 17 ربيع الأول 1354هـ، الموافق 18 يونيو 1935م .
وقد أعيد نشرالرسالة فى (مجلة النذير) فى العدد (39) الصادر فى 9 شوال 1358هـ، الموافق 21 نوفمبر 1939م. وقد أعيد نشر رسالة دعوتنا فى كتيب خاص ضم رسالتين بجانبهما هما (إلى أي شيء ندعو الناس؟ – نحو النور) .
وقد استهل الإمام البنا الرسالة بالتعريف بغاية الإخوان، وذكر أصناف الناس، كما شخص الداء الذى أصاب الأمة الإسلامية، ووصف لها الدواء، الذى يتمثل فى المنهج الصحيح، وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله، والسير على نهج السلف الصالح.
الروح العام المهيمنة على الرسالة: هي روح الإشفاق على الأمة وهي ذاهلة عن التكليف الذي أمرها الله به، وهو تكليف الشهادة ﴿وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (الحج: من الآية 78)، وما يستدعيه هذا التكليف الضخم من إقامة الدين حتى يتمثل في أمة والإشفاق عليها أن ينزل بها عقاب الله عندما لا تقوم بهذا التكليف الضخم، ولذلك عرضه الإمام البنا بعاطفة صادقة جياشة أسالت المدامع وأهاجت المشاعر وأقضت المضاجع، وروح الاستنفار التي تعني روح الجد بعيدًا عن التلكؤ والكسلِ والاستهتار.
العناصر الأساسية للرسالة: * الدعوة – آنذاك – في الداخل والخارج. * خصوصية المنشأ والمستوى والتكليف. * الإمام البنا ومنهجه في تصنيف الناس أمام الدعوة. * حقيقة دعوتنا. * متطلبات دعوتنا.
شروط إنجاز هذا التكليف الضخم (إقامة الدين حتى يتمثل في أمة): أولًا: أداء الواجب دون النظر إلى نيل الحقوق. ثانيًا: باعث الإرادة (بروز المثل الأعلى). ثالثًا: تكليف البلاغ وحدوده. رابعًا: المثل الأعلى وأثره الصالح في العمران. خامسًا: وحدة روح الأمة ووحدة إرادتها. سادسًا: وجود جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر حتى وإن وجدت الدولة الإسلامية.
هذه الرسالة كتبت في ظروفٍ تاريخيةٍ حاسمة في حياةِ الدعوة، والذين كتبوا عن تاريخِ الدعوة قالوا إنها مرَّت بأربع مراحل: – فترة النشأة من 1928 إلى 1932 ميلادية. – ثم انتقالها إلى القاهرة عام 1932م وهي فترة إعلان الدعاية والتفاف الجماهير والأنصار حولها حتى عام 1939م مع بداية الحرب العالمية الثانية. – ثم كانت فترة التكوين الداخلي أو الإداري والتربوي من عام 1939م حتى عام 1945م. – ثم فترة مواجهة الأحداث الكبرى في وادي النيل (قضية الجلاء والمفاوضات مع الإنجليز)، وهي عام 1945م، حتى استشهاد الإمام البنا عام 1949م تلك الفترة التي كان فيها بعض التجاوزات، التي تذكر دائمًا وتلصق، رغم أنَّ الإخوان أعلنوا براءتهم منها كمقتل الخازندار ومقتل النقراشي (رئيس الوزراء)، وقد ذكر الإمام البنا في مقتل الخازندار عندما تكلم عن هذه الأحداث، أنها أحداث فردية ونشأت عن تصورات ومفاهيم وأفعال فردية، لا تمت إلى الجماعة بصلةٍ في بيانه الحاسم “ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين”، وقال عن مقتل التقراشي “فإنَّ الجماعة قد تمَّ حلها فلا تُحاسب على شيء وهي ليست مسئولة عنه بحُكمِ القانون”. – كُتبت هذه الرسالة في تلك الفترة الحرجة وهو عام 1932 م أو مطلع 1933 م، كما ذكر في مذكراتِ الدعوة والداعية وهي فترة الانتقال إلى القاهرة والتي كان المقصد منها هو عموم الدعاية وتكوين الأنصار، واتسمت هذه الفترة أنها كان الهدف منها أمرين:
أولًا: عموم الدعاية وتكوين الأنصار. ثانيًا: توثيق صلة الحماعة بالمجتمع المصري وبقضاياه عن طريق إيضاح الأهداف والمقاصد وعن طريق ثني قضاياه ومشاكله الكبرى. وأما عن الهدف الأول كما ذكرنا وهو عموم الدعاية وتكوين الأنصار: فقد انتشرت الدعوة في أوساط جديدة كما كان يرجو لها الإمام البنا (رحمه الله) ويُخطط، وذلك بعد انتقاله إلى القاهرة في عام 1932م حققت الدعوة بعض مقاصدها وهي: انتشارها بين فئات جديدة أهمها الشباب، وعلى نحوٍ خاصٍّ شباب الجامعات، فقد أرسل الشيخ طتطاوي جوهري رسالةً إلى الأستاذ البنا – وقد كان خارج مصر – بعنوان (فتح من الله ونصر قريب) يُخبره فيها دخول ستة من شباب الجامعات في دعوة الإخوان وهم: الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد (كلية الآداب)، الدكتور إبراهيم أبو النجا (كلية الطب)، وأحمد مصطفى (مدرسة التجارة العليا)، محمد جمال الفندي (كلية العلوم)، محمد رشاد الهواري (كلية الحقوق)، محمد صبري (كلية الزراعة).
وقد كانت الجماعة خلال فترة التكوين والنشأة من 1928م إلى 1932م وبخاصة الفترة التي كان فيها الإمام البنا في الإسماعيلية، كانت مقتصرة على مجموعةٍ من البسطاءِ في مجالاتِ العمل، أو متوسطي التعليم، الذين شكلوا الرعيل الأول من الجماعة وهم الستة الذين أشار إليهم الإمام البنا، وكان هناك مجموعة معهم ولكنهم قليلون من علماءِ الأزهر مثل الشيخ حامد عسكرية والشيخ محمد فرغلي.
فكان دخول شباب الجامعة إلى هذه الجماعة وانضمامهم إليها نصرًا من الله وفتحًا كما عبَّر عن ذلك الشيخ طنطاوي جوهري الذي كان يُلقَّب بحكيمِ الإسلام، وهو صاحب تفسير الجواهر في القرآن، ومعنى ذلك أنَّ الدعوةَ بدأت تغزو أماكن جديدة منها طلاب الجامعة، وكان ذلك من تقديرِ الله لها في هذه المرحلة، وكان ذلك في الداخل.
أما في الخارج: فقد وقع عدد من أعداد مجلة الإخوان في يد الأخ الأستاذ عزت راجح المفتش بالمعارف آنذاك، وقد كان يومها طالبًا في جامعةِ السوربون بفرنسا، فعرض (عقيدتنا) على أستاذه “أرنست رينان” وهو حفيد رينان الكبير، فوصفها بكلماتٍ رقيقةٍ بليغة، وأرسل الدكتور عزت لأخيه الأستاذ أسعد راجح عضو المركز العام للإخوان بالقاهرة خطابًا بالحادث، فنشرته مجلة الإخوان ضمن مقال افتتاحي نصه: عقيدة الإخوان المسلمين في رأي الأستاذ (أرنست رينان) أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بالسوربون بباريس.
أخي العزيز: وبعد: فبينما كنتُ يومًا بمسجد بباريس إذ وُجِدت بين الجرائد والمجلات المعروضة هناك جريدة “الإخوان المسلمين” التي طالما حدثتني عنها وعن رجالها وأنا بمصر، وتحت عنوان: “عقيدتنا” قرأت عقائد وتعهدات صادفت في نفسي إعجابًا وتقديرًا، وبعد دراسة عامة لهذه المبادئ وجدتها جديرة بالعرض بعد ترجمتها على الأستاذ “أرنست رينان” أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة السوربون وأخذ رأيه فيها، وأخذها الأستاذ وأعادها بعد أيام، وقد كتب عليها ما ترجمته: “إن هذه الكلمات عميقة المبحث والقصد وهي لا شك مستمدة من المنهج الذي رسمه محمد ﷺ ونجح في تنفيذه فأسس بها أمةً ودولةً ودينًا، وقد زيد فيها بما يُناسب روح العصر مع التقيد بروح الإسلام. وفي عقيدتي أنه لا نجاحَ للمسلمين اليوم إلاَّ باتباع نفس السبيل التي سلكها محمد ﷺ وصحبه، غير أنَّ تحقيقَ هذا على الحالة التي عليها المسلمون اليوم بعيد، وليس معنى هذا القنوط والقعود عن العمل”.
وقد علَّق الإمام البنا على رسالة رينان الفيلسوف بقوله: يمكنك أن تخرج من هذا الرأي الدقيق الذي ألقي من وراء البحار في عقيدة الإخوان المسلمين بعدة نقاط: أولًا: عقيدة الإخوان المسلمين مستمدة من نفس المنهج الذي وضعه سيدنا محمد ﷺ، ومعنى ذلك أن الأستاذ أرنست رينان يرى أن عقيدة الإخوان المسلمين إسلامية بحتة لم تخرج عن الإسلام قيد شعرة، ولقد صدق، فما من كلمةٍ واحدةٍ في عقيدةِ الإخوان المسلمين إلا وأساسها الكتاب والسنة وروح الإسلام الصحيح.
ثانيًا: هذا المنهج قد استطاع به سيدنا محمد ﷺ “أن يكوِّن دينًا وأمةً ودولةً”. ثالثًا: لا نجاحَ للمسلمين اليوم إلا باتباع نفس السبيل التي سلكها سيدنا ﷺ وصحبه-، ذلك رأي الفيلسوف “رينان”، وهذا ما أكده الرسول ﷺ من قبل وأكدته الحوادث. إنَّ عدةَ الشرق خلق وإيمان، فإذا فقدهما فقدَ كل شيء، وإذا عاد إليهما عاد إليه كل شيء، واندحرت أمام الخلق المتين وأمام الإيمان واليقين قوة الظالمين.
رابعًا: تحقيق هذا المنهج على الحالة التي عليها المسلمون اليوم: يرى الأستاذ رينان أن تحقيق ذلك بعيدٌ لأنه يعلم الهوة السحيقة التي أوجدتها الحوادث السياسية والاجتماعية بين المسلمين ودينهم، ويعلم الوسائل الذاتية الفعَّالة التي استخدمها خصوم الإسلام في إبعاد المسلمين عن الإسلام في العصر الحديث. ويعلم أنَّ المسلمين أنفسهم صاروا الآن حربًا على دينهم يكسرون سيفهم بيدهم ويسلمون المدية لمَن يريد أن يذبحهم بها باختيارهم، ويتصدعون بالهدم مع مَن يهدمون دينهم وهو معقد أنظمتهم وأساس قوتهم. والإخوان المسلمون يعتقدون هذا ويرونه كما يراه الأستاذ وما تصوروا حين هبوا للعمل أنهم سيسيرون في سبيل هينة لينة، بل علموا ما ينتظرهم من عقبات فأعدوا لذلك أنفسهم وأموالهم وإيمانهم وعقيدتهم، وانتظروا وعد الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).
خامسًا: ليس معنى هذا القعود عن العمل “أجل- أجل” فلن تزيدنا العقبات إلا همة ولن تزيدنا المصاعب إلاَّ مضيًّا في سبيل الجهاد، ونحن نقرأ قول الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية 78).
ولكم كان الأستاذ “رينان” دقيقًا حين رأي أنَّ عقيدة الإخوان المسلمين (عميقة المبحث والمقصد)، وحين يرى أنها وإن زيد فيها ما يناسب روح العصر فهي مقيدة بروح الإسلام، وهكذا الإسلام تنتظم روحه العصور أجمع وتشمل الدنيا وما فيها، وهكذا الإخوان المسلمون قد استطاعوا أن يستمدوا من روح الإسلام ما يوافق روح العصر ويصور عقيدتهم للناس كاملة، يبدو فيها الروحان جميعهما ولكم نتمنى أن يكون بيننا وفينا مَن ينظر إلى عقيدتنا تلك النظرة الفاحصة ليخرج بعدها بمثل هذا الحكم السديد.انتهى كلام الإمام البنا في تعليقه على ما كتبه أرنست رينان.
نعود مرةً أخرى إلى القول: إنَّ هذه هي الظروف التاريخية التي كُتبت فيها هذه الرسالة؛ حيث إنَّ أوَّلَ ما كتبه رحمه الله – أول ما نزل إلى القاهرة كان: إلى أي شيء ندعو الناس؟، ورسالة هل نحن قوم عمليون ثم رسالة دعوتنا، ونحو النور، والمأثورات فيما بعد.
——————————– انتهى الجزء (1)، يليه الجزء (2) إن شاء الله تعالى.