في ظلال رسالة دعوتنا (4) للإمام حسن البنا – رحمه الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وقائد المجاهدين، وسيد الداعين إلى الله على بصيرة والمجاهدين فيه باحسان، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعد
أساليب البرهان ووسائل الدعاية في دعوتنا والتدليل على ذلك يحتاج إلى إجادة أساليب البرهان، وهي تختلف – رغم وحدة الموضوع – في كل زمان بحسب الأشخاص والأزمان. أساليب البرهان على صلاحية ذلك النموذج أو المثل الأعلى وأهليته لإصلاح الوجود حتى تتحقق الإرادة القوية وحتى يتحقق الإيمان القوي فليس كل من يحاول عرض المثل الأعلى قادرًا على ذلك؛ لأن الأمر يحتاج إلى صنعة. إلى اتقان إلى تقنية. لذلك عندما تكلم الأستاذ الإمام البنا في هذا الموضوع قال إن الدعوة بالأمس غيرها اليوم، والدعاة بالأمس غيرهم اليوم ووسائل الدعوة بالأمس غيرها اليوم، مما يعني أنه رغم وحدة الموضوع إلا أن أساليب البرهان تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص والدليل على ذلك، كما يقولون، عزير لما قال لله: ﴿أَنَّى يُحْيِيْ هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ فأماته الله وأمات حماره، وبعد ذلك بعثه وبعث حماره.
أما عندما طلب إبراهيم عليه السلام: قال ﴿رَبِّ أَرِنِيْ كَيْفَ تُحْيِيْ الْمَوْتَى﴾ فإن الله لم يُمته ولكن قال له ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ إذن تعددت أساليب البرهان باختلاف الزمان واختلاف الشخص، والإمكانات والقدرات والتجاوب والتهيؤ للسماع والاقتناع، وعندما قال كفار قريش للرسول- عليه الصلاة والسلام- في سورة يس: ﴿قالَ مَن يُحْيِيْ الْعِظَأمَ وَهِيَ رَمِيْمٌ﴾؟ قل لهم: إن الذي أنشأها أول مرة هو الذي يُحييها. مما يرسخ مفهوم تعدد أساليب البرهان باختلاف الأزمنة والأشخاص وهذا ما ذهب إليه وأيده الإمام الشهيد رحمه الله. فاختلفت أساليب البرهان رغم وحدة الموضوع، وذلك باختلاف الزمان والأشخاص، واختلاف العقليات والثقافات، واختلاف القواعد والقضايا التي رسخت، وهلك من أجل ترسيخها الأنبياء وشقي المصلحون، ولذلك بمرورِ الوقت تصير هذه الأمور راسخة غير محتاجة أن نتعبَ في التدليلِ عليها كثيرًا. ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَأمَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (يس). يعلق على ذلك توماس كارليل في كتابه الأبطال، وهو يتحدث عن معجزةِ النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا سأله كفار قريش عن أن يأتيهم بالمعجزات، قال لهم أنتم أنفسكم معجزات، إنكم لم تكونوا فكنتم. ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)﴾ (العنكبوت) فلم يستجب لهم، ودعاهم إلى أن يقرءوا القرآنَ الذي بين أيديهم ويُفكروا فيه.
إنه استنفار الهمم والروح الجادة، كما قال أ. سيد قطب: إنَّ هناك أسئلةً لا يسألها مؤمنٌ جادٌّ ولا كافر جاد، إنما يسألها المائعُ المستهتر، فالكافر الجاد لا يسألها لأنه لا يؤمن بها في أصل الاعتقاد، فلا يفكر فيها ولا يشغل باله بها، ولا يسألها مؤمن جاد لأنه مسلمٌ بها، ولذلك فالإمام البنا عندما تكلَّم عن المعاني وصنَّف النَّاس إلى أربعةِ أصنافٍ ليحيي فيهم روحَ الجد بما فيه من الرزانة والوقار، يأخذ الأمور والمشاكل والقضايا بالرزانة والوقار وبالخشونة والعبوس، والأمر يستدعي ذلك، تكليف العقل والاجتهاد، من النظر وإعادة النظر وطلب الحق من مظانه، حتى إن لم تدركه.
فروح الجد تشع في الرسالة من أولها رغم عاطفة الإشفاق القوية التي بدأ بها الأستاذ الإمام البنا، لكن هناك ضوابط تضبط هذه العواطف وتدعوه فعلًا إلى رُوحِ الاستنفار التام والكامل لإثبات جدارة الإنسان وأحقيته في التكريمِ من أجل إقامةِ العدل وحقن الدماء.
وهذا الذي جعل الإمام البنا رحمه الله يقف وقفةً طويلةً عند الحديثِ عن أساليب البرهان ووسائل الدعاية والإعلان، وهو جانب كما قال الإمام البنا: (لهذا كان من واجب أهل الدعوة أن يحسنوا تلك الوسائل جميعًا حتى يأتي عملهم بثمرته المطلوبة).
(ووسائل الدعاية الآن غيرها بالأمس كذلك، فقد كانت دعاية الأمس كلمة تلقى في خطبة أو اجتماع أو كلمة تكتب في رسالة أو خطاب، أما الآن فنشرات ومجلات وجرائد ورسالات ومسارح (وخيالات) وحاك ومذياع، وقد ذلل كله سبل الوصول إلى قلوب الناس جميعهم، نساءً ورجالًا في بيوتهم ومتاجرهم ومصانعهم ومزارعهم).
والآن نعرف أنَّ سطوة الإعلان بلغت من الدرجة والقدرة أن تجعل الحقَّ باطلًا والباطل حقًّا، وليس فقط تغير ما بالنفس كما يقولون، إنما يزرعون اهتمامات جديدة، فأصبح لديهم قدرة على التلاعب بأعصاب الناس وانفعالاتهم، هذه العلوم والتقانات التي – كما يقول د.عمر عبيد في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر – واكبت حملات التنصير الشرسة، واستجدت لها علوم النفس وعلوم الاجتماع والدراسات الإنسانية، والبيولوجية وغيرها، وكذلك علوم الدعاية والإعلان، لكي تساعد على نشر تلك الدعوات التنصرية. فمن حقنا نحن وأولى بنا أن نمتلك حواس العصر وصور الدعاية والإعلان الموجودة.
وكما ذكروا في جريدة الحياة قريبًا أنَّ امرأةً واحدةً استطاعت أن تجيش جيوش أوروبا وحلف الأطلنطي في ضرب كوسوفا، وهي مراسلة (CNN) المشهورة. كانت تلبس القميص الواقي من الرصاص وتنقل الأخبار والصور من قلبِ المعركة، فاستطاعت أن تنقل صورًا حيَّة ومشاهد دامية، محزنة، عمَّا يفعله الصرب بأهل كوسوفا، إلى كل بيتٍ على امتداد أوروبا كلها، مما جعل حلف الأطلنطي – يخجل أمام نفسه ويجيش الجيوش من أجل ضرب الصرب كما حدث، وتمَّ وقف هذا الاعتداء-؛ لأنها أهاجت الرأي العام ولكن ذلك أخذ وقتًا طويلًا فتمَّ على مدار أربع سنوات متتالية، استنفرت فيها الغرب والشارع العام، ليحرج حكوماته للقيام بضرب الصرب حتى يتوقف عمَّا يفعله.
———————————- انتهى الجزء (4) ويليه الجزء (5) إن شاء الله تعالى.