في رحاب فقه الدعوة (2)

في رحاب فقه الدعوة (2) بقلم: د. محمد حامد عليوة

استكمالًا لما سبق حول الدروس والمنافع الدعوية والتربوية من سلسلة رسائل (من فقه الدعوة) لفضيلة الأستاذ مصطفى مشهور، -رحمة الله عليه-، نقف اليوم مع توجيه بليغ أورده في كتابه القيّم (مقومات رجل العقيدة)، وقد وضعت عنوانا لهذا التوجيه هو: (بذل الجهد ومواصلة السير)، وفيما يلي نص توجيه فضيلة الأستاذ:
«والأخ المسلم المخلص لربه؛ لا تفتر همته في بذل الجهد ومواصلة السير على الطريق، ولو لم تظهر له النتائج المبشرة بالنصر، فالمطلوب منه العمل وبذل الجهد كله دون تقصير؛ مع إخلاص النية، أما النتائج فالله سبحانه هو الذي يرتب لها ويختار لها الوقت المناسب».(1) 

وبالنظر في هذا التوجيه، نستخلص بعض المعاني والفوائد التربوية والدعوية وهي:
1- أن للإخلاص على طريق الدعوة سر عجيب، وأثر بالغ يعود على الدعوة والدعاة، فهو للدعوة أساس القبول والتأييد، وللدعاة أساس السداد والتوفيق، وبالتالي وجب علينا أيها الأحبة، أن نخلص النية لله في كل أقوالنا وأعمالنا وجهادنا كله، وأن نقصد بها وجه الله وابتغاء مرضاته، وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، ولنتذكر دائماً شعارنا الخالد (الله غايتنا)، لأنه مع الإخلاص (تتنزل البركات، وتتحق الفتوحات، وتعم الخيرات، وتُقال العثرات)، وكما قال الإمام ابن الجوزي: «وإنما يتعثر من لم يخلص»، وفقنا الله وإياكم لحسن القصد وسلامة العمل.

2- أن من ثمار الإخلاص على طريق الدعوة علو الهمة وزيادة الدافعية للعمل الدائم والجهد المتواصل، لأن المخلص لربه يتلذذ بجهده ويسعد بسعيه وإن أحاطته المصاعب وتكاثرت عليه المتاعب، وهذ سر من أسرار معرفة الله، وارتباط القلوب به سبحانه. يقول الإمام البنا في هذا الباب: «معرفة الله هي عصا التحويل التي تنقل الفرد والجماعة من حال إلى حال، وحسن الاعتماد عليه وحده هو أظهر علامات الإيمان الصادق، فحققوا في أنفسكم وفي أعمالكم هذه الصلة بربكم، واعتمدوا عليه وحده ولا تخافوا غيره، ولا ترهبوا سواه».(2) 

3- لا فتور أو ضعف يصيب الدعاة ما دامت قلوبهم موصولة بالله، يأخذون منه القوة، ويستمدون منه المدد، فتراهم بإخلاصهم وصلتهم بمولاهم؛ مستمرون في السير لا ينكصون، دائبون على العطاء والبذل لا يتوقفون، وإن غابت النتائج وقلت المباهج، ولعل هذا الثبات العجيب هو أحد ثمار الإيمان وتعلق القلوب بالله، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ). ولا تزيدهم مشاق الطريق إلا إيمانًا وتسليمًا وتثبيتًا.

4- أن بذل الجهد ومواصلة السير، ومن قبلهما ومعهما الإخلاص وصدق التوجه هي مقدمات صادقة لنتائج واقعة بإذن الله، فرجل الدعوة حينما يستفرغ طاقته واستطاعته، ويستمر في الفرار إلى ربه مخلصًا له الدين فهو لا محالة بين مآلين لا ثالث لهما، إما ينال العز والسيادة في الدنيا، بنصر الله وتأييده، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4-5)، أو يقضي نحبه لينال الشهادة والسعادة، وفي كلا المآلين فهو من الفائزين. (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَأمَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَـدُ) (سورة غافر)

5- أن فقه السير على طريق الدعوة يقتضي أن لا ينشغل الدعاة بنتائج سيرهم بقدر اهتمامهم بما يقومون بها من عمل، ومدى الإخلاص فيه، وكيفيته ومدى الإحسان فيه، لأن الله سيحاسبنا على أعمالنا وجهودنا لا على نتائجها. والمتدبر في قوله تعالى: (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) يلمس جانبا من ذلك، بمعنى أن المولى سبحانه سيسألنا عن مدى إخلاصنا في هذا العمل، وهل ارتبطت قلوبنا في إنجازه بالله، لا بقوتنا ولا قدرتنا؟ وهل استفرغنا فيه الجهد والوسع؟ وهل أديناه بإتقان وإحسان، وهل كان مرتبطا بغاية وهدف وموافقاً للشرع؟ وهل وسائله وأدواته مشروعة؟ وغيرها من أسئلة الكيفية. أما نتائج الفعل فهي كما أوضح الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله -: «فالله سبحانه هو الذي يرتب لها ويختار لها الوقت المناسب».

ولقد تعرض الإمام حسن البنا – رحمه الله – في رسالة المؤتمر الخامس لهذا المعنى المهم في فقه الدعوة إلى الله فيقول: «أيها الإخوان المسلمون: إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه، وذلك مكفول لكم ما دمتم مخلصين، ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين، وإما مصيبون فلنا أجر الفائزين المصيبين.
علي أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا طريقكم، ولا إنتاج إلا مع خطتكم، ولا صواب إلا فيما تعملون، فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم. واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم والفوز للعاملين 
﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 143)». 

6- أن تأخر النصر -مع الأخذ بكل أسبابه ومقدماته- ليس دليلاً قاطعاً على سوء المسير أو فساد العمل أو تقصير العاملين، فقد يتأخَّرُ النَّصْرُ حتى يتوحَّدَ الصفُّ على الأهدافِ المشتركةِ، ويدركَ قيمةَ وخطورةَ جهادِه العظيمِ، وقيمةَ وأهميةَ اللجوءِ الكاملِ والمخلصِ لله الذي يُجيبُ المضطرَّ إذا دَعاهُ ويَكشِفُ السوء ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَأمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ آل عمران 146.

وللحديث (في رحاب فقه الدعوة) بقية في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

————
(1) من كتاب: (مقومات رجل العقيدة)، للأستاذ مصطفي مشهور.
(2) من مقال للإمام البنا، نُشر بجريدة الإخوان المسلمون، 6 مارس 1943م.

اترك تعليقا