قوة الحق في مواجهة البغيّ –  د. محمد حامد عليوة

قوة الحق في مواجهة البغيّ د. محمد حامد عليوة

لا شك أن الحق قاهر ظاهر، والباطل خانس زاهق، لأن طريق الحق هو طريق الخير والرشاد، أما طريق الباطل فهو طريق البغي والفساد، والحق يستمد قوته من القوي المتين سبحانه، والباطل يحمل ضعفه من الشيطان وأعوانه.

يُبين الاستاذ سيد قطب – رحمه الله – في تفسيره لسورة الناس، حقيقة المعركة بين الخير والشر والخير وبين الحق والباطل، فيقول: «فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها، وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها، يستند إلى الرب الملك الإله. والشر يستند إلى وسواس خناس، يضعف عن المواجهة، ويخنس عند اللقاء، وينهزم أمام العياذ بالله.»(1) 

والواضح من كلام الشهيد سيد قطب – رحمة الله عليه – أن الحق هو الحقيقة التي لا حقيقة غيرها، والباطل هو الوهم والكذب والخداع والضياع الذي ليس بعده شيئاُ من ذلك، وهي حقيقة يجب أن يعيها السالكون لطريق الحق، مهما انتفش أمامهم الباطل، واستعرض أمامهم قواه، وأصابهم الأذى من أعوانه البغاة، فهو باطل زاهق يحمل ضعفه فيه، وأنهم الأقوي بالحق إن شاء الله.

كما يتضح من كلام الأستاذ سيد – رحمه الله – أن قوة أهل الخير والحق تأتي من استنادهم إلى (رب الناس – ملك الناس – إله الناس)، وهي صفات – إن امتلأت بها قلوب أهل الحق – يندحر أمامها الشر، وينهار في مواجهتها الباطل، (فالرب) هو المربي والموجه والراعي والحامي، (والملك) هو المالك الحاكم المتصرف، (والإله) هو المستعلي المستولي المتسلط، وهذه الصفات فيها من الحماية والوقاية والمنعة ما فيها.

قوة الحق زاد وأمل
والمؤمن المتأمل في طبيعة الصراع بين الحق والباطل، يري بإيمانه ويقينه حجم الباطل وواقعه وحقيقته، والمتدبر في قول الله تبارك وتعالي: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) الأنبياء:18، وقوله سبحانه وتعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) الإسراء:81، وقوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) الرعد:17، يجد نفسه أمام أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الحق والباطل، والخير والشر، وهي الحقيقة التي تبعث في نفس المؤمن الأمل، وتنزع منها الرهبة والهزيمة في مواجهة الباطل ومصارعة الشر، وهي الحقيقة التي تملأ قلب المؤمن – السالك لطريق الحق – بالطمأنينة والثقة.

والناظر بتأمل في كتاب الله تعالى يجد سورة كاملة من سور القرآن (هي سورة الرعد) محورها الأساسي الذي تدور حوله، (قوة الحق وضعف الباطل)، حيث تؤكد السورة في مجملها على حقيقة واضحة جلية وهي: (أن الحق واضح بيّن راسخ، وأن الباطل زائف زاهق، مهما ظهر وعلا ببهرجه وزيفه).

وعلى السالكين لطريق الخير والحق ألا ينخدعوا ببريق الباطل الزائف، وخواره الخادع، لأنه زائل زاهق لا محالة، ويبقى الحق يسطع بنوره على الكون كله.

سيل الحق وزبد الباطل
في تفسير قول الله تبارك وتعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَال) الرعد:17، يذكر الأستاذ سيد قطب – رحمه الله –:
«إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان. هذا الزبد نافش راب منتفخ. . ولكنه بعد غثاء. والماء من تحته سارب ساكن هادئ. . ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة. . كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل. ولكنه بعدُ خبثٌ يذهب ويبقى المعدن في نقاء.
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة. فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيًا طافيًا ولكنه بعدُ زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحًا لا حقيقة له ولا تماسك فيه.»(2) 

ويبين الإمام محمد بن على الشوكاني في تفسيره (فتح القدير)، الدلالة في هذه الآية من سورة الرعد فيذكر – رحمه الله -:
«وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل، يقول: إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحل وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل الباطل، وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض، وكذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه، وهو مثل الحق.»(3) 

الحق باق مهما انكمش والباطل زائل مهما انتفش
والمتابع لأحوال الدعوة والدعاة، ولا سيما ما نراه هذه الأيام من انتفاش للباطل، وكيده بالليل والنهار للحق وأهله، ربما يتطرق لنفسه اليأس والقنوط من فرج الله أو يستوحش الطريق ويستبطئ النصر، أو يظن أن الأمر انتهي، وأن الحق لن تقوم له قائمة. ولكن عندما نقيس الأمور بمقياس الإيمان واليقين، ومقياس حقيقة الحق وحقيقة الباطل تختلف الأمور وتتغير الأفهام وتنقلب الموازين لصالح الحق وأهله.

إنه اليقين بأن الباطل مهما ارتفع فهو إلى انخفاض ومهما انتفش فهو إلى زوال وأن النصر والتمكين للحق والخير وأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.

إنه اليقين الصادق بوعد الله في نصر دعوته وعز أوليائه، ووعده الصادق في هلاك الطغاة والمتجبرين من أعدائه.
إنها النظرات العميقة في كتاب الله، هذا الكتاب الخالد الذي نرى آياته المحكمات التى وردت في هلاك الظالمين ومصارع الطغاة، ونصر المؤمنين والدعاة جاءت في صيغة الماضي، وهو تأكيد على وقوعها وثبوتها لا محالة (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) الصافات (171- 173)

يا أهل الحق:
اطمئنوا ولا تجزعوا، وأبشروا وأملوا، فلن يفلت الطغاة من وعد الله، ولن يفروا من عقاب الله العاجل أو الآجل، فهم في قبضة الجبار، الذي يمهل الظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. فأين من وقفوا في وجه دعوته من الظالمين؟ وأين من تكبر على أولياءه من الطغاة والمجرمين؟ (فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَأمٍ) إبراهيم:47، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وإن حال أهل الحق مع المحن والشدائد، وأمام قوى الباطل والطغيان، هو كما بينه الإمام البنا قائلا: «ولكنها – أي المحن والعقبات – تمر بكم مرًا رفيقًا رقيقًا، يُقوي ولا يُضعف، ويُثبت ولا يُزعزع، ويُنبه ولا يُوهن، ويزيدكم بنصر الله إيمانًا وبرعايته ثقة؛ لأنكم بكلمته تنطقون، ولدعوته تعملون، فأنتم لذلك على عينه تُصنعون (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا) الطور:48. ومن هنا كان واجبكم أكبر الواجبات، وكانت تبعاتكم أثقل التبعات.»(4) 

أبشروا، فقد صدع بهذه الحقيقة الشهيد سيد قطب حين قال: «سيذهب الطغيان ويبقى الإخوان»، نعم إنها حقيقة دامغة تجسد طبيعة الصراع وواقع المعركة، وخلاصتها: أن الحق باق وأن الباطل ذاهب، فهل من مُعتبر؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

——————
(1) في ظلال القرآن، تفسير سورة الناس، ج6.
(2) تفسير في ظلال القرآن، تفسير سورة الرعد، ج4.
(3) فَتْحُ الْقَدِيرِ الْجَأمِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَأيَةِ وَالدِّرَأيَةِ من التفسير، للإمام الشوكاني – ج3.
(4) مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة مؤتمر رؤساء المناطق والشُعب، 1945م.

اترك تعليقا