كلمة جامعة ووصايا نافعة

كلمة جامعة ووصايا نافعة – بقلم الإمام حسن البنّا

عُقد المؤتمر الخامس للدعوة فى 13 من ذى الحجة عام 1357هـ – الموافق 2 من فبراير عام 1939م، بسراي أل لطف الله بحي الزمالك بالقاهرة، وذلك بمناسبة مرور عشر سنوات على إنطلاق دعوة الإخوان المسلمين.

وعقب المؤتمر وجه الإمام حسن البنا كلمة جامعة وتوجيهات نافعة إلى أبناء الدعوة يوصيهم فيها بوصايا غالية، وإليكم نص هذه الكلمة الجامعة (*).

«أيها الإخوان المسلمون: الآن وقد انتهى مؤتمركم، وانتهى به العام الهجري الفائت، واستقبلتم عامكم الهجري الجديد، واستقبلتم كذلك السنة الثانية لهذه الصحيفة المباركة (النذير). ماذا أنتم فاعلون؟

لقد تم المؤتمر بحمد الله موفقًا ناجحًا كل النجاح، ولقد كان فاصلًا بين دورين من أدوار طريقكم، دور الاعتكاف في الميدان العام، ودور الظهور في هذا الميدان، ولقد وقف خطباؤكم من فوق هذا المنبر في هذا الجمع الحاشد يدعون الناس جميعًا، الهيئات، والأفراد، والجماعات، والأحزاب، والأمة كلها إلى سلوك طريقكم، والعمل على مبادئكم، والاندماج في صفوفكم، والإيمان بدعوتكم. فهو عرض عام للبضاعة على رءوس الأشهاد، ونعم المعروض على الناس، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وشريعة نبيه محمد المبعوث رحمة للعالمين، ولهذا الظهور في الميدان مطالبه وتبعاته.

هذا موقفكم أنتم الخاص، وموقف الأمة عمومًا موقف الحائر في مفترق الطرق يلتمس الوادى ويترقب الدليل، فهي لا تخاصمكم ولا تتأبى على دعوتكم، ولكنها تريد منكم أن تُقدموا لها البراهين الواضحة والحجج الظاهرة البينة على أفضلية منهاجكم، وأحقية دعوتكم، ووفود الأمن في طريقكم، ثم هي لا تلبث بعد ذلك أن تكون كما تريدون، أما الموقف العالمي الآن فلعله أوفق الأوقات لكسب المعركة، ولعل هذه الظروف التي أتيحت للعالم الإسلامي في هذه الأيام أبدع ظروف مرت به لو استفاق قادته، وعرف عظماؤه وزعماؤه كيف يستفيدون منها لأممهم المظلومة المحرومة! وإذن فالموقف ملائم من كل نواحيه.

أظنني – أيها الإخوان – قد تناولت فكرتكم في كلمة المؤتمر من الوجهة النظرية، بما لا يدع في نفس أحد شُبهة، وبما لايحتاج بعد ذلك شرح أو بيان، ولكن الكلام وحده لا قيمة له إن لم تصدقه الأعمال، ويتبعه التنفيذ المباشر، وإن الله لاينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

أيها الإخوان المسلمون:
العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا، فجاهدوا أنفسكم واحملوها على تعاليم الإسلام وأحكامه، ولا تتهاونوا معها في ذلك بأي وجه من الوجوه، أدوا الفرائض، وأقبلوا على الطاعة، وفروا من الإثم، وتطهروا من العصيان، وصلوا قلوبكم ومشاعركم دائما بالله الذي له ملك السموات والأرض، قاوموا الكسل والعجز، واحرصوا على الوقت فلا تصرفوه في غير فائدة، وحاسبوا أنفسكم فيه حسابًا عسيرًا، وإحذروا أن تمر بكم دقيقة واحدة لايكون لأحدكم فيها عمل طيب وسعي مبرور.

والعمل مع بيوتكم وأسركم – أيها الإخوان – أقدس واجباتكم، فالأمة هي مجموعة هذه الأسر، وإذا قويت دعائم الأسرة قوي بناء الأمة واطمأننا على الجيل الجديد كل الإطمئنان، فتلطفوا مع أهليكم وأسركم وأصدقائكم وأقربائكم، واحملوهم جميعا على خطتكم، واقنعوهم في أدب ولطف ومنطق وحجة بوجاهة رأيكم، واعتدال طريقكم، وفائدة عملكم، حتى يكونوا معكم فيما أنتم بصدده من عمل مجيد نبيل.

ووحدتكم – أيها الإخوان – وارتباطكم هو السلاح الأول وهو أقوى الأسلحة في أيديكم، فاحرصوا على هذه الوحدة وكونوا دائما مع الجماعة، ولا تخالفوا عن أمر إخوانكم، ولا تفرقن بينكم المشاعر الزائلة ولا الأوهام القاتلة.

انشروا الفكرة في كل محيط يتصل بكم، في الحوانيت، والشوارع، والبيوت، والمساجد، والمقاهي، والمجالس العامة والخاصة، وفي القري والريف والمدن والعواصم، وفي المصانع والمعامل، والحقول والمدارس. واجمعوا قلوب الناس جميعا على كتاب الله وتحت لواء محمد ، أفضل خلق الله أجمعين ورحمة الله للعالمين، فلواؤه لواء الحمد، وشرعته منهاج الرشد، وهديه أفضل الهدى، ومن استظل بظله وسار تحت رايته فاز في الدنيا بالنصر (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) الحج من الآية 40، وفاز في الآخرة بالأجر (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) التحريم من الآية 8.

واجعلوا في كل شارع جماعة إخوانية، وفي كل قرية كتيبة قرآنية، وفي كل مدينة راية محمدية، وفي كل فج من الفجاج أخ يهتف بمبادئكم ويتنادى بتعاليمكم، ويعلي كلمتكم، ويبايع بيعتكم، ويجهز نفسه ليمثل مكانه في الصف، وإن يوم النداء لقريب.

ألفوا الفرق الرياضية بأنواعها في شُعبكم، فالقوة شعاركم، ولا قوة في جسم ضعيف ضئيل، ووجهوا عنايتكم إلى الجوالة، وليكن في كل شُعبة من شُعبكم فرقة من شبابها، فهو الجهاد في سبيل الله، وهو ذروة سنام هذا الدين، وهو التدرب الذي يُضاعف فيه الأجر ويُجزل المثوبة.

كونوا الكتائب فإن جيوش الليل تنزل بالنصر على جيوش النهار، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، وأنيروا حنادس* الظلام بأيات الكتاب الكريم، وناجوا الله والناس نيام يدلكم من أعدائكم، ويبارك في أعمالكم ويرزقكم التأييد والمعونة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

اقتصدوا من أموالكم لإيمانكم ومستقبلكم فإنكم لا تدرون ما الموقف غدًا، ولا يصرفنكم ذلك عن الثقة بمولاكم، والاعتماد على بارئكم، وإنما على حد قول النبي الصالح: ﴿يَا بَنِىَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ [يوسف: 67]، ﴿وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 22-23].

أيها الإخوان:
إنكم في دور تكوين ولم تتم خطوتكم الثانية بعد، بل أنتم لازلتم في أولها فلا يلهينكم السراب الخادع عن حسن الاستعداد وكمال التأهب، اصرفوا تسعين جزءًا من المائة من رزقكم لهذا التكوين، وانصرفوا فيه على الخلق أجمعين، واجعلوا عشرة الأجزاء الباقية لما حولكم من الشئون حتى يشتد عودكم ويتم استعدادكم، وتكمل أهبتكم، وحينئذٍ يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين.

أيها الإخوان:
الإيمان القوي، والعمل الصحيح، والإقبال على الطاعة، والبعد عن المعصية، والحرص على الوحدة، والعمل الدائب، والجهاد المستمر، وحسن النظام، وإخلاص الغاية، كلها دعائم لا بدَّ أن تتوفر في مجتمعاتكم بوضوح تام حتى تذللوا ما يعترض طريقكم من عقبات وإنها لكثير لا تتيسر إلا لمن يسرها الله عليه.

وبعد..، فإنى لعظيم الأمل في إيمانكم، وجميل تقبلكم لمثل هذه النصائح التي لا يمليها إلا الأمل فيكم، والحرص على خير الدعوة التي نفتديها جميعًا بكل ما في الوجود، فاعملوا والله معكم، وإنى كذلك لعظيم الشكر لهؤلاء الإخوان الكرام الذين تجشموا مشقة سفر بعيد مديد ليصلوا رحمًا ويؤدوا واجبًا ويعينوا إخوانهم في مرضاة الله، وفقكم الله، وسدد خطاكم، وجعله عام يمن وبركة وخير».

……………………………
* الحندس: الليل الشديد الظلمة، والجمع (حنادس). المعجم الوسيط، ص 209.
(*) مقال بعنوان: (بعد المؤتمر) نشر بمجلة النذير، الععد الأول، السنة الثانية، الإثنين غرة محرم 1358هـ الموافق 21 فبراير 1939م، . والمقال كلمه ألقاها الإمام البنا عقب انتهاء المؤتمر الخامس للدعوة.

اترك تعليقا