معرفة الله وآثارها – بقلم: الدكتور محمد حامد عليوة
استكمالا لسلسلة (نظرات فى تُراث الإمام حسن البنا)، نتعرض اليوم لتوجيه موجز وبليغ لفضيلة الإمام المجدد – رحمه الله – ونقف مع الدروس التربوية والفوائد العملية من هذا التوجيه الكريم.
كتب الإمام حسن البنا:
«أيها الإخوة الأحباب: معرفة الله هي عصا التحويل التى تنقل الفرد والجماعة من حال إلى حال، وحسن الإعتماد عليه وحده هو أظهر علامات الإيمان الصادق، فحققوا فى أنفسكم وفى أعمالكم هذه الصلة بربكم، واعتمدوا عليه وحده ولا تخافوا غيره، ولا ترهبوا سواه، وخذوا فى الأسباب، ورحبوا بالنتائج كيف كانت، وحرموا على أنفسكم واربأوا بها وترفعوا عما استباح الناس فى هذه الأعصار من التكالب على الوساطات الوهمية، والوقوف بأعتاب ذوى الجاه والسلطان، والتوصل إلى الأغراض الشريفة بالوسائل الخسيسة، فإن ذلك مما يطوح بإيمان المؤمن، ويلثم شرف الأعزة الأكرمين، وتأملوا قول النبي ﷺ: (اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجرى بالمقادير).»(1)
الدروس والفوائد من هذا التوجيه:
1- أن الصلة بالله على مستوى الفرد والجماعة، هي أساس كل رشد، وباب كل خير، ومنطلق الإصلاح، وطريق الفلاح، فالسعيد من تعلق بالله قلبه، واستنارت نفسه من روح قُدسه، وخضعت جوارحه لأوامر ربه.
والعبد حينما يحقق هذا الإتصال الرباني؛ يرى آثاره العظيمة فى حياته، فتنكشف الكربات، وتُقال العثرات، وتتنزل البركات، وتحل على العبد الفتوحات.
2- أن آثار الإتصال بالله لا تتوقف عند الفرد، – وإن كان هو أصلها وأساسها – ولكنها تمتد إلى غيره، وما يرتبط به، فيذكر الإمام البنا فى موضع آخر حول هذا المعنى: «إذا لا مست معرفة الله قلب الإنسان تحول من حال إلى حال، وإذا تحول القلب تحول الفرد، وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة، وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة، وما الأمة إلا مجموعة من أسر وأفراد».
3- والأصل في الجماعة الموفقة المستحقة لنصر الله وتأييده؛ أن يكون السواد الأعظم لأبنائها من أصحاب القلوب الحية النقية، وحياة القلوب فى الإيمان وحسن الاتصال بالله، ولذلك لابد أن تركز في مقاصدها ووسائلها على هذا الجانب الحيوي فى بناء وتكوين الجماعة، هو ما أشار إليه الإمام البنا فى توجيه آخر للإخوان قال فيه: «كونوا عبادا قبل أن تكونوا قوادا ؛ تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة». ويقول الإمام البنا فى موضع آخر: «أيها الإخوان: كونوا ربانيين، يمنحكم الله من قوته وتأييده ما تعنو له الحياة وتنحنى أمامه رءوس الجبارين».
4- أن الصلة بالله من أظهر علامات صدق الإيمان، وللإيمان الصادق نور وحلاوة يقذفها الله فى قلب من يشاء من عباده (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وتكون حياة لقلبه ونراسا له وهدى بين الناس (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.) الأنعام 122. والأمر لأصحاب الدعوات وسالكى طريق الحق أوجب وألزم لهم من غيرهم، فالصلة بالله بالنسبة لهم مفتاح لمغاليق القلوب، وباب واسع للقبول والتوفيق .
5- يوجهنا الإمام البنا أن نحسن الاعتماد على ربنا وخالقنا، وأن هذا الاعتماد يربى فى نفوسنا أن لا نخاف أحدا سواه سبحانه، وهذا كله من ثمار الاتصال الرباني بين العبد وربه، ولأن طريق الدعوات تحفه المخاطر وتحيطه الخطوب، وتكثر عليه العقبات والفتن، يكون الإعتماد على الله وعدم الخوف والرهبة من سواه من المعينات على هذا الطريق.
6- أن الانتماء للدعوة لا بد أن يصاحبة حالة من عزة النفس بهذا الإيمان وهذا الإنتماء الثمين؛ دون تعال أو تكبر، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) المنافقون 8.
هذه الحالة من الترفع عما اعتاده الناس واستباحوه لأنفسهم من التكالب على الوساطات الوهمية والتذلل لأصحاب الجاه والسلطان والنفوذ من شيم أصحاب الدعوات، لأنهم وقد ارتبطت قلوبهم بخالقهم فلا تتعلق يوما بغيره من الخلائق أو المنافع الدنيوية الزائلة، وهذا من صميم الإيمان.
وقد تطرق الإمام البنا فى مقدمة رسالة الإخوان تحت راية القرآن لما يتصل بهذا المعنى فقال: «نتقدم بدعوتنا نحن الإخوان المسلمين (هادئة) ولكنها أقوى من الزوابع والعواصف، (متواضعة) ولكنها أعز من الشم الرواسى …، (مجردة من المطامع والأهواء والغايات الشخصية والمنافع الفردية)، ولكنها تورث المؤمنين بها الصادقين فى العمل لها السيادة فى الدنيا والجنة فى الآخرة». رسالة الإخوان تحت راية القرآن .
ولعل موقف الإمام البنا مع مندوب الحكومة البريطانية، حين عرض عليه المساعدة المالية ينفق منها على أنشطة الدعوة، خير شاهد على أن هذه الدعوة من أول يوم دعوة عزيزة أبية، دعوة من أخص خصائصها (البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان). رسالة المؤتمر الخامس
وختاما: يؤكد الإمام البنا على هذا المعنى، حتى يشعر الإخوان بطبيعة دعوتهم، وحقيقة منزلتهم فيقول: «أيها الإخوان المسلمون: هذه منزلتكم، وتلك طبيعة دعوتكم، فلا تصغروا فى أنفسكم، فتقيسوا أنفسكم بغيركم، أو تسلكوا فى دعوتكم سبيلا غير سبيل المؤمنين». رسالة الإخوان تحت راية القرآن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
—————————- (1) المصدر: من مقال للأستاذ البنا، نُشر فى جريدة الإخوان المسلمون، العدد (13)، السنة الأولى، بتاريخ 29 صفر 1362هـ الموافق 6 مارس 1943م.