لقد ترك الإمام البنا – رحمه الله – رصيداً زاخراً من التوجيهات والوصايا الدعوية والتربوية، والتي أرشد بها أمته بوجه عام وأتباعه بوجه خاص، فأحيا بها معاني قد ماتت، وألهب بها مشاعر قد غابت، ونفض بها الغبار عن قيم قد تحللت، وأبان بها مفاهيم قد اندثرت.
والمتأمل بعناية في تراث الإمام البنا وكتاباته القيمة، والتي تحمل في ثناياها معانى عميقة واضحة، وفوائد عملية نافعة، يتأكد له أن الإمام البنا قد أكرمه ربه بفضائل عدة منها، إحاطته وبصيرته بجوانب دعوته وميادين فكرته، كما أن تراثه يدل أيضا على تنوع تجاربه، وكثرة ممارساته وخبراته العملية في ميدان الدعوة والتربية.
وها نحن نستكمل سلسلة (نظرات في تراث الإمام حسن البنا) ونقف أمام جوهرة ثمينة ووصية موجزة وبليغة من تراث الإمام رحمه الله، وهي عبارة عن مقال قصير بعنوان (من وصايا المرشد العام)، وقد نشر في العدد (34) من جريدة الاخوان المسلمين، بتاريخ 17 رمضان 1355 هـ، الموافق 1 ديسمبر 1936م.
(وصايا المرشد العام)
– يا أخي، لا تعش بغير غاية، فإن الله لم يخلقك عبثا ولم يتركك سدى. – يا أخي، ليكن الله غايتك، واسمع قول الله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِير مُبِين) الذاريات 50 – يا أخي، إنما تحرص في هذه الحياة على أمرين؛ رزقك وأجلك ولا سلطان لأحد عليهما إلا الله، فلا يمنعك الحرص عليهما أن تعمل للحق. – يا أخي، إنما تنهض الأمم بالتضحية، وتقوم الدعوات على الوفاء، فإن كنت تعيش لأمتك فضح في سبيلها، وإن كنت مؤمنا بدعوتك فاجتهد في الوفاء لها. – يا أخي، لا تقل ما لا تفعل، ولا يغرنك أن يحسبك الناس عاملا، ولكن همك أن يعلم الله منك صدق ذلك، فإن الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا. – يا أخي، ولن يستطيع أي صاحب أن يكون لك في غير هذه الحياة الدنيا، وهناك صاحب واحد ينفعك في حياتك ويلازمك في آخرتك، ذلك العمل الصالح، فاحرص على أن يكون صاحبا لك في كل حال، وتذكر قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) المؤمنون 51. – يا أخي، قلبك محل نظر الله منك، فاحذر أن تدنسه بالخصومة، فإنها حجاب في الدنيا وعذاب في الآخرة: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الشعراء 88-89. – يا أخي، اجتهد أن تؤمن بفكرتك إيمانا يخضع لها أملك وعملك، واسمع قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة 119. – يا أخي، أعتقد أنك تعمل لغايتين، أن تنتج، وأن تقوم بالواجب، فإن فاتتك الأولى، فلن تفوتك الثانية (قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىَ رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ) الأعراف 164. – يا أخي، لا بدَّ من الموت، فاجعله في سبيل الله، فناء في الحق لهو عين البقاء، وإنك يوم تموت شهيدا تكسب الشرف والأجر والخلود والحياة، على حين أنك لم تخسر شيئا أبدا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران 169. (1)
الفوائد والدروس التربوية والدعوية:
أولاً: ضرورة وضوح الغاية في قلب وعقل السائرين على الطريق، حتى لاتختل الصفوف، وتضيع الجهود، وتضطرب الخطوات، وتحدث الانحرافات، فتزل قدم بعد ثبوتها.
ومن فضل الله علينا أن للغاية خاصيتين، أولهما: أنها ثابتة، وثانيهما: أنها ممكنة، أما لكونها ثابتة، فهى لاتتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الحال، فالله غايتنا في كل زمان ومكان وحال، ورضاه مبتغانا في العسر واليسر، والغنى والفقر، والصغر والكبر، والقوة والضعف، والاستضعاف والتمكين. إلخ.
أما لكونها ممكنة، فرضا الله وتقواه مرهون بالاستطاعة (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن: 16، وبالتالى، لايستطيع كائن من كان أن يحول بينى وبين ربى، أو يمنعني من عبادته وتقواه، أوينزع مني غايتي، وإن كان الفداء بالروح والنفس، فروحي في سبيل غايتى، وهي الله سبحانه ونعيمه المقيم.
ورحم الله شيخ الإسلام بن تيمية لما تعرض للسجن في سبيل نُصرة الحال قال قولته المشهورة: «مايصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنّى رحت، فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة»، وكان يقول في سجنه: «المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه». وهنا يظهر ثبات الغاية وإمكانيتها. ومن دواعى الحركة الصحيحة بالدعوة أن تكون على بصيرة ومنها البصيرة بالغاية (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يوسف: 108
ثانيا: نلمح في ثنايا هذه الوصايا الغالية، وفي أكثر من موضع بها، التأكيد على حُسن القصد، وإخلاص الجهد، وحُسن التوجه إلى الله بالعمل، لأن القلب محل نظر الله، ولأن الإخلاص هو سر قبول العمل، ولأن العبرة ليست بكثرة الأعمال والتحركات، ولكن العبرة بمدى الصدق والإخلاص فيها، كما نلمح في الوصايا أن الأخ الصادق يجب ألا يتعلق قلبه على طريق الدعوة إلا بالآخرة.
فعلينا أيها الأحباب أن نخلص توجهنا وأعمالنا وحركاتنا وسكناتنا كلها لله تعالى. ففي إخلاصنا لله النجاة والخلاص والصلاح والتوفيق وخيرا الدنيا والآخرة، إذ أنه يفلح من يخلص، ويتعثر من لم يُخلص، وكما قال الإمام البنا «إن الخفي على هذه السبيل خير من الظاهر».
فهذه الدعوة تحتاج من يتجرد لها، ولاينتظر منها جاهًا أو لقبًا أو منصبًا أو تقدم أو تأخر، كما حدد الإمام البنّا معالم الإخلاص في هذه الدعوة، عندما تكلم في ركن الإخلاص فقال: «وأريد بالإخلاص أن يقصد الأخ بقوله وعمله وجهده وجهَ الله، وابتغاءَ مرضاته وحُسْنَ مثوبته، من غير نظرٍ إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدُّم أو تأخُّر، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة لا جندي غرض ومنفعة﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِيْ وَنُسُكِيْ وَمَحْيَأيَ وَمَمَاتِيْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ* لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ. ﴾ (الأنعام: 162،163) وبذلك يفهم الأخ المسلم معنى هتافه الدائم: (الله غايتنا) و(الله أكبر ولله الحمد)». رسالة التعاليم.
ثالثاً: أن الإمام البنا يؤكد في وصيته على ربانية الأخ على طريق الدعوة، وحسن علاقته بربه سبحانه، وتعلق قلبه بمولاه، وعدم تعلقه بالدنيا، أو منصب زائل أو لقب فارغ، فكل ذلك يفنى ويبقى العمل الصالح والجهد الخالص.
ومن ثمار الربانية وإقبال العبد بقلبه نحو ربه يقبل عليه الخلق بقلوبهم، فكما قال هرم بن حيان – رضي الله عنه: «ما أقبل عبد على الله بقلبه؛ إلا أقبل الله عز وجل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم».
ولذلك كثيراً ما أكد الإمام البنا في توجيهاته لإخوانه على هذا المعنى، ففي وصيته الجامعة على هامش المؤتمر الخامس (1357هـ – 1993م) قال: «أيها الإخوان: العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا، فجاهدوا أنفسكم وإحملوها على تعاليم الإسلام وأحكامه، ولا تتهاونوا معها في ذلك بأي وجه من الوجوه، وأقبلوا على الطاعة، وفروا من الإثم وتطهروا من العصيان، وصلوا قلوبكم ومشاعركم دائما بالله الذي له ملك السموات والأرض، قاوموا الكسل والعجز، ووجهوا شبابكم ومشاعركم وعواطفكم إلى الفضيلة الطاهرة النقية، وحاسبوا أنفسكم فيه حسابا عسيرا، وإحذروا أن تمر بكم دقيقة واحدة لايكون لأحدكم فيها عمل طيب وسعي مبرور».
رابعاً: أن يعتز الأخ المسلم بانتمائه لهذا الدين وهذه الدعوة المباركة، وأن يحرص على دعوته، ويفي ببيعته، وأن يكون حارسًا أمينًا على مبادئ دعوته.
والانتماء للدعوة له ثلاث صور (انتماء قلبي – انتماء فكري – انتماء تنظيمي)، ولا بد من اكتمال الانتماء بكل صوره في نفس الأخ.
ومن دلائل صدق الانتماء، أن يحمل الأخ هم دعوته، وأن يثق في منهجه وقيادته، وأن يثق في نصر الله وتأييده لعباده الصالحين، وأن تكون الدعوة مرجعًا له في قراراته الحيوية، وأن يجعل لقيادته حق الترجيح والمفاضلة، وأن يُضحي من أجلها ولا يبخل عليها بجهد أو مال، وأن يكون وفياً لفكرته، فيتجرد لها دون سواها من الأفكار، وهو ما عبر عنه الأستاذ البنا حين تكلم عن الأخ الصادق المجاهد فقال:
«أستطيع أن أتصور المجاهد شخصاً قد أعد عدته وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام على قدر الاستعداد أبداً، إن دُعي أجاب وإن نُودي لبى، غُدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يُجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه، وتسمع في فلتات لسانه ما يدلك على ما يضّطرم في قلبه من جوىَ لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزيمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة».(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فصلت: 33.
خامساً: وقد أوصانا الإمام باليقين في الله، واليقين فيما عند الله، وأن يعمل الأخ منا لدينه ودعوته وللحق ولا يخشى من انقضاء النفس أو فوات الرزق، فقد قضى ربنا وقدر أن الأجل والرزق بيديه سبحانه وتعالى (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)، إذا لامجال للانشغال إلا بالدعوة، ولا مجال لحمل هم إلا هم الدعوة، ولا مجال للاستغراق في كماليات الحياة عن واجبات الدعوة. وهنا يظهر الاهتمام بالدعوة والانشغال الحقيقى بها، حتى تملأ على الفرد نفسه وحياته، فيعيش بها ولها، ومع ازدياد الاهتمام بالدعوة تتضاءل باقي الاهتمامات في نفسه حتى يستولى عليه هم واحد هو هم الدعوة فتراه لا يتكلم إلا بالدعوة، ولا يغضب إلا للدعوة، ولا يفرح إلا للدعوة، ولا يخاف إلا على الدعوة.
وختاماً: الملاحظ على هذا التوجيه أنه عبارة عن عشر وصايا، بدأها الإمام البنا جميعا بنداء واحد هو «يا أخي»، مما يوحى بخصوصية الطرح من ناحية، وأهمية الفرد باعتباره مناط الإصلاح وأساس التغيير من ناحية ثانية، ومن ناحية أخرى يدل هذا النداء على مقدار وحجم العواطف التي كان يحملها قلب مرشدهم نحوهم بخاصة، ونحو المسلمين بعامة، وحرصه عليهم وشفقته بهم، وهذا درس هام نقف أمامه هنا، أن المربى والموجه الأمين لا بدَّ أن ترتبط روحه بمن يربيهم، وتلتقي مشاعره بمن يوجههم ويتعهدهم، فحياة القلوب ولغة المشاعر لها أبلغ الأثر في النفوس.
ومما يرويه المرشد السابق الأستاذ محمد حامد أبو النصر – رحمه الله – في مذكراته، أن الامام حسن البنا كان يلقى إخوانه دائما بشوق وعاطفة، ويفارقهم بشوق أكبر وعاطفة أقوى، فكان إذا التقى بنا نرى فى عينيه لهفة اللقاء، وعندما يفارقنا نقرأ فى عينيه لوعة الفراق، وكان – رحمه الله – يقول لنا: «أنتم رأس المال وهو قليل، أسأل الله ألا يُريني الفجيعة فيكم». إنها عاطفة الأخوة ورابطة القلوب.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يرزقنا جميعا الإخلاص في القول والعمل وفي السر والعلن. إنه سميع مجيب الدعاء. وصلى الله وسلم على رسولنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى أله وصحبه ومن والاه، والحمد لله رب العالمين.
——————————— (1) المصدر: مقال قصير للإمام البنا، بعنوان (من وصايا المرشد العام)، وقد نشر في العدد (34) من جريدة الاخوان المسلمين، بتاريخ 17 رمضان 1355هـ، الموافق 1 ديسمبر 1936م.