﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ – وقفات ومعاني تربوية

﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ – وقفات ومعاني تربوية
د. محمد حامد عليوة

المتأمل بعقله والمتدبر بقلبه لهذه الآية الكريمة والحقيقة العظيمة؛ ﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ تنتابه مجموعة من المشاعر وتسيطر عليه جملة من المعاني. مفادها جميعًا: أن أوزان الناس وأقدارهم ومكانتهم في الدنيا قد تتباين تباينًا تامًا عن أحوالهم ومآلهم في الآخرة.

وقبل أن نغوص في المعاني والفوائد من مقصود هذه الآية دعونا نبدأ أولًا بما ورد بشأنها في بعض التفاسير:
* (إذا قامت القيامة، ليس لقيامها أحد يكذِّب به، هي خافضة لأعداء الله في النار، رافعة لأوليائه في الجنة.) – (التفسير المُيسر).
* (هي مظهرة لخفض أقوام بدخولهم النار ولرفع آخرين بدخولهم الجنة.) – (تفسير الجلالين).
* (خافضة لأناس في أسفل سافلين، رافعة لأناس في أعلى عليين، أو خفضت بصوتها فأسمعت القريب، ورفعت فأسمعت البعيد.) – (تفسير السعدي)
* (تخفض أقواما إلى النار، وترفع آخرين إلى الجنة) وقال عطاء عن ابن عباس: تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع أقواما كانوا في الدنيا مستضعفين.) – (تفسير البغويّ).
* (هي خافضة للأشقياء إلى أسفل الدركات: وهي رافعة للسعداء إلى أعلى الدرجات.
والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة وفي العز والإهانة، ونسب -سبحانه- الخفض والرفع إلى القيامة على سبيل المجاز.
والمقصود بالآية الكريمة ترغيب الصالحين في الازدياد من العمل الصالح، لترفع منزلتهم يوم القيامة، وترهيب الفاسقين من سوء المصير الذي ينتظرهم، إذا ما استمروا في فسقهم وعصيانهم.) –
(التفسير الوسيط)
* (تحفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزاء. وترفع آخرين إلى أعلى عليين، إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وضعاء. وهكذا قال الحسن وقتادة، وغيرهما.) – (تفسير بن كثير)
* وقوله: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) يقول تعالى ذكره: الواقعة حينئذ خافضة، أقواما كانوا في الدنيا، أعزّاء إلى نار الله. وقوله: (رَافِعَةٌ) يقول: رفعت أقواما كانوا في الدنيا وُضعَاء إلى رحمة الله وجنته.) (تفسير الطبري)
* (خافضة رافعة)؛ قال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين.
وقال قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت أقواما إلى طاعة الله. وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة. وقال محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين. وقال ابن عطاء: خفضت أقواما بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل.) –
(تفسير القرطبي)
* (وإنها لتخفض أقدارا كانت رفيعة في الأرض، وترفع أقدارا كانت خفيضة في دار الفناء، حيث تختل الاعتبارات والقيم; ثم تستقيم في ميزان الله.) – (في ظلال القرآن)

ومما سبق من أقوال المفسرين لهذه الآية الكريمة، يتبين لنا: أن يوم القيامة هو يوم تستقيم فيه الموازين فلا تختل كما كانت في الدنيا، فيوزن الناس بميزان الحق لا بميزان الخلق، ميزان الخالق العادل المنصف لا ميزان المخلوق الناقص الجائر. وقد صدق في ذلك قول ربنا سبحانه: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (الأعراف: 8).

إن يوم القيامة هو يوم الحقيقة الساطعة، يوم الميزان القسط الذي يوزن به الناس، فتظهر حقيقتهم، فنرى وضيعًا لا يأبه به الناس في الدنيا لكنه عند الله رفيعًا مرفوع الهامة بإيمانه وتقواه. ونرى بسطاءً مغمورين في الدنيا، لكنهم يوم القيامة أعزاء مرموقين، ونرى سادة وقادة ملأت سمعتهم ومكانتهم الآفاق في الدنيا؛ لكنهم يأتون وقد انخفضت مكانتهم وانتهت سيادتهم وضاعت سمعتهم، بين الخلائق يوم القيامة، يوم الخزي والندامة.

هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا
وفي هديّ المصطفي ﷺ العظة والعبرة، وذلك حين نتأمل في الحديث التالي يتبين لنا أن وزن الناس بمقاييس الله ورسوله غير وزنهم بمقاييس الخلق، وإن كان الوازنون هم صحابة رسول الله ﷺ.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:
«مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا». (روى البخاري (6447))

والرسول ﷺ هنا يضبط الميزان ويحدد القدر والمكانة، فكم من أصحاب الجاه والسلطان والمناصب والألقاب العلية بين الناس، يكونوا عند الله بلا قدر أو مكانة أو رفعة، وعكس ذلك صحيح.
لأن مكانة العباد عند ربهم إنما هي باعتبار ما في قلوبهم من خصال الإيمان كتقوى الله، ومحبة الله، والإخلاص والإخبات لله، والخوف والرجاء من الله، وباعتبار الأعمال والأفعال الصالحة التي يبرهنون بها على ما في قلوبهم من خصال الإيمان.

فمن كان أتقى لله وأعظم محبة لله، واكثر خوفًا ورجاء من الله؛ كان أحب إلى اللهوأعلى قدرًا ومكانة عند الله، وبمقدار تفاوت الناس في ذلك، تتفاوت منازلهم عند الله، حتى يصير الرجل الفقير البسيط الذي لا يؤبه له، بكمال إيمانه وتمام يقينه وحُسن عمله خيرًا من ملء الأرض من الغني الوجيه ضعيف الإيمان قليل الإحسان.

ومن تعقيبات شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – على هذا الحديث؛ قوله:
«ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَقِّ شَخْصَيْنِ: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مِثْلِ هَذَا) فَصَارَ وَاحِدٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ؛ وَهَذَا تَبَايُنٌ عَظِيمٌ لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ.» (مجموع الفتاوى – 384، 385/ ج2)

هذا مِنِّي وأنا منه
فعن أبو برزة الأسلمي نضلة بن عبيد «أنَّ النَّبيَّ ﷺ كانَ في مَغْزًى له، فأفَاءَ اللَّهُ عليه، فَقالَ لأَصْحَابِه: هلْ تَفْقِدُونَ مِن أَحَدٍ؟ قالوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قالَ: هلْ تَفْقِدُونَ مِن أَحَدٍ؟ قالوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قالَ: هلْ تَفْقِدُونَ مِن أَحَدٍ؟ قالوا: لَا، قالَ: لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا؛ فَاطْلُبُوهُ، فَطُلِبَ في القَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إلى جَنْبِ سَبْعَةٍ قدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فأتَى النَّبيُّ ﷺ فَوَقَفَ عليه، فَقالَ: قَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ، هذا مِنِّي وأنا منه، هذا مِنِّي وأنا منه، قالَ: فَوَضَعَه علَى ساعِدَيْهِ ليسَ له إلَّا سَاعِدَا النَّبيِّ ﷺ، قالَ: فَحُفِرَ له وَوُضِعَ في قَبْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَسْلًا». (صحيح مسلم – 2472).

وهنا يضبط رسول الله ﷺ الميزان حين يسأل عن أحد أصحابه الذى زوجه حديثًا، ولما نادى منادي الجهاد لبى وخرج، يسأل عنه بعد نهاية الغزوة وهو يتفقد الشهداء والجرحي، وكلما سأل: (هلْ تَفْقِدُونَ مِن أَحَدٍ؟) لا تأتيه الإجابة التي يريد فيكررعليهم السؤال دون إجابة، إنه يقصد جليبيبًا، هذا الصحابي المغمور بينهم ذو المكانة عند نبيهم.
«هذا مِنِّي وأنا منه»، وهذا معناهُ المبالَغةُ في اتِّحادِ طَريقَتَيهِمَا، واتِّفاقُهما في طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه مِن أهلِ طَريقةِ النَّبيِّ ﷺ وسُنَّتِه في مُعاداةِ أعداءِ اللهِ تَعالَى، وتكرار النَّبِيُّ ﷺ مَقولتَه بَيانًا لفَضلِ جُلَيْبيبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وما أعظَمَ هذه الفضيلةَ الَّتي حَصَلَت لجُلَيْبيبٍ رَضيَ اللهُ عنه مع كَونِه غيرَ مَشهورٍ عِندهم!

وتأكيدًا على بيان قدر ومكانة جليبيب أمام أصحابه الذين لم يعدوه من المفقودين ولم يذكروه، نجد النَّبِيُّ ﷺ بِإكرامِه له أقبل عليه، وجَعَله على سَاعِدَيْه وحَمَله بيَدَيه؛ مُبالغةً في كَرامَتِه؛ وَلِتنالَهُ بركةُ مُلامسَتِه، فَحُفِرَ له في الأرضِ مَوضعُ دَفنِه ووُضِعَ في قَبرِه.
إنه الميزان النبوي في بيان مقدار الناس وقدرهم ومكانتهم، ميزان يؤكد على الحقيقة التى وقفنا عليها من خلال الآية الكريمة (خَافِضَةٌ رَّافِعَة). فكم من مغمور بين الناس غير مذكور، لكنه في أهل السماء مشهور ومقدور، ويوم القيامة يأتي وقد ارتفع ذكره وعلا شأنه، بما قدم وبذل في حياته الدنيا لا بمكانته فيها.

لكن الله يعرفهم
ذكَرَ الطَّبريُّ في تَاريخِه قصَّةً مؤثِّرةً، وهِيَ أنَّه لمَا أَتمَّ اللهُ فَتحَ (نَهَاوَنْدَ) بقيادة النُّعْمَانُ بن مُقرِن في سَّنةِ إِحدَى وعشرينَ للهِجرةِ والتي يُسمِّيها المسلمونَ (فَتحَ الفُتُوحِ)، جاءَ السَّائبُ بنُ الأقرعِ إلى الفاروقِ رضي اللهُ عنه فقال: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحٍ أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، وَأَذَلَّ بِهِ الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ قَالَ: فَحَمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: النُّعْمَانُ بَعَثَكَ؟ قَالَ: احْتَسَبِ النُّعْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ وَاسْتَرْجَعَ قَالَ: وَمَنْ وَيْحَكَ! قَالَ: فُلانٌ وَفُلانٌ، حَتَّى عَدَّ لَهُ نَاسًا كَثِيرًا، ثُمَّ قَالَ: وَآخَرِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَعْرِفُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي: لا يَضُرُّهُمْ أَلا يَعْرِفَهُمْ عُمَرُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْرِفُهُمْ.

نعم.. صدقت في مشاعرك وتعبيرك يا أمير المؤمنين، (لا يَضُرُّهُمْ أَلا يَعْرِفَهُمْ عُمَرُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْرِفُهُمْ)، فالذكر الحقيقي في السماء لا في الأرض، والمكانة التي تُتبغى بصدق في السماء لا في الأرض، عند الله لا بين الناس.
فعباد الله الأتقياء الأخفياء، الذين تعلقت قلوبهم بالآخرة، وابتعدوا عن مواطن السمعة والشهرة، ترى الواحد منهم قليل الأتباع، فقير المتاع، اسمه لا يثير المسامع إذ نُطق، ولا يُسمع إذا تكلم، تراه مجهولًا في الأرض، لكنه معروفًا في السماء، مغمورًا في الآرض مشهورًا بين أهل السماء.

هؤلاء بتقواهم وصالح أعمالهم تتجلى رفعتهم وتبدو مكانتهم يوم القيامة، يوم تعتدل المقاييس وتنضبظ الموازين، يوم يعرف الناس أقدارهم وتظهر مكانتهم، فترى منهم من انخفض ومنهم من ارتفع.
فاعملوا ليوم ترجعون فيه إلى الله، ولا تنشغلوا بدنيا تزول زينتها ومكانتها ولا تدوم مناصبها وألقابها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

One Reply to “﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ – وقفات ومعاني تربوية”

اترك تعليقا